وظيفة النديم في العصر القديم

تُشتق كلمة النديم من النّدم ، واختلفت الأقوال في شرح  سبب  نسبتها إلى الندم، ولعل أرجح إحتمال هو لأن  النديم  شخصٌ تـندم على فرُاقه ، لما فيه من صفات ومواهب  تجلب لك الأنس والراحة، ولذلك سمي نديما.

 

إقتصرت ظاهرة المنادمة عند العرب في الجاهلية حول مجالس الشرب. فلا  بهجة حقيقية للنفس أثناء الشراب ، إلا بمصاحبة  جليس الشراب ،وما يصدر عنه من  محادثة مسلية. ومع  تراجع ظاهرة  شرب الخمر  في العهد النبوي والراشدي والأموي ، توسع مفهوم النديم ليشمل الجليس الأنيس المُصاحب حتى بدون شراب، ثم ما لبثت أن تحولت المنادمة إلى مهنة إحترافية لها شروطها وأصولها. نستطيع أن نعرّف  النديم عمليا بأنه أديب مثقف من الطراز الرفيع ، لديه من حسن الشكل والصفات والمواهب ما يؤهله ليلعب دور  ثلاثة  أشخاص في حياة  الشخص الذي ينادمه. فهو صديق مُرافق ، و مستشار  ناصح ، ومُسلي مؤانس.

كانت وسائل التسلية والترفيه  تتركز قديما حول مجالس الأنس والأدب، التي يحضرها عادة  عدة  فئات من " الـمُلهّـيـن".فالجواري والغلمان للمُتع العاطفية، والمغنين والموسيقيين للمُتع السمعية ، والممثلين والمهرجين للمُتع البصرية. أما الندماء ، فهم للمُتع الفكرية والنفسية ، وهي أرقى أنواع المتعة. لذلك، كان الندماء يحظون باحترام وتقدير كبيرين في المجتمع ، فالمنادمة أرقى وظيفة  يحلم بها المثقفون والأدباء، لما فيها من جاه وراحة ومكاسب مادية  ومعنوية كثيرة .إذ كان  أصحاب المناصب والملوك و الخلفاء والأمراء والوزراء والنبلاء والتجار الميسوري الحال، بحاجة إلى شخص يرافقهم بما لديه من جمال المظهر ، ويسليهم  بظُرف طباعه وخفة  روحه، ويؤانسهم بما لديه من فنون وقصص ومعرفة  وأخبار  ونكت، وينصحهم  بما لديه من علم وخبرة وإطلاع وموسوعية . فكان النديم خير شخص يلبي تلك الحاجات عند "رئيسه " ، أو عند صاحبه النبيل الذي ينادمه، والذي يُـفترض به أن يكون غنياً وكريماً، كي  يقوم بواجبه إتجاه نديمه فيصرف عليه

و يؤدي له حقوقه من الأموال والهدايا ،أو يخصص له معاشا  شهريا  ثابتا إذا كان  نديمه خاصا به ملازما له.

أما مؤهلات  وظيفة المنادمة ، فأولها الأدب ، حيث  يتوجب على النديم أن يكون أديبا فصيحا عارفا بأقوال العرب وأشعارهم وحكاياتهم. فمن الضروري أن يكون لديه إطلاع بشتى أنواع المعارف كالأدب بكافة مواضيعه إبتداءا بالحكمة وانتهاءا بالجنس والنكت  المضحكة ،و التاريخ والدين والثقافة وكل حديث يجلب  لنفس صاحبه البهجة والسرور ويفتح له آفاق جديدة مدهشة.

 ومن شروط المنادمة أيضا أن يكون النديم بشوش الوجه ، لطيفا  طريفا ظريفا مرِحاً.ولا يفوتني  تركيز العرب على حسن صورة النديم وجماله ، فعليه أن يكون نظيفا مرتبا بأحسن حلّة ، يشرح  نفس الناظر عند رؤيته. كما ينبغي للنديم أن يكون صادقا غير خائن، مؤتمنا على الأسرار التي يطلع عليها، حتى لو حدث خلاف وانفصل عن الشخص الذي ينادمه. ومن المستحب أيضا أن يلعب الشطرنج  تحديدا أو أية هوايات أخرى ممكن أن يتشارك بها مع صاحبه لقضاء وقت ممتع معه.

أختم بشعر  ظريف  للشاعر  أبو هلال العسكري ، يختصر  فيه صفات النديم حيث يقول : " ليس للّهو  والمدامة حظٌ، لكريمٍ  دون  النديم  الكريمِ ،فتخيّر قبل النبيذ نديماً ، ذا صفاتٍ معطّرات  النسيمِ، وجمالٍ إذا نظرتَ بديعٍ ، وضميرٍ إذا اختبرتَ  سليمِ".

متيم جمال / أديب روائي

mutayyamjamal@hotmail.com