وداعاً أبو سارة…
حمد العماري
هي سنّة الحياة…يأتي يومٌ تُفارق فيه من تحبّ، وما أصعب الفراق! كان وقْع خبر وفاة صديقي العزيز سامي خليفة القصيبي ثقيلاً عليّ، عندما تلقّيته عشيّة عيد الأضحى المبارك. فلم أتمالك نفسي، وغالبتني الدموع وأنا أهمّ بمغادرة مكتبي في بيروت، للسفر قبيل إجازة العيد. بين غصّة الذكريات وحنين الصداقة التي جمعت بيننا، توالت إلى ذهني صورة سامي وصدى ضحكته التي لطالما علت محيّاه، وصوته المرحّب بي كلّما التقينا؛ طابعةّ في نفسي جمرة حزنٍ وأسىً، لرحيل وغياب صديق من خيرة ما عرفت من أصدقاء!
لا أذكر المرّة الأخيرة التي رأيته فيها، ولكنّي أذكر حين اتّصل في أوائل الصيف الماضي بي ليعلمني بمجيئه إلى بيروت. واستغربت آنذاك، تملّصه من مقابلتي، تارة بعذر قيامه برحلة عائليّة إلى الجبل وطوراً بإصابته بالإنفلونزا. فأحسست حينها بوجود خطب ما، خصوصاً أنّه كان هو من بادر بإعلامي بقدومه، وأنّه لم يكن يتوانى يوماً عن توفير أيّ فرصة للقاء…لكنّني سرعان ما أدركت الأسباب الكامنة وراء تصرّفه هذا، حين علمت بعد فترة وجيزة بإصابته بالمرض الخبيث، وبسفره إلى النمسا لتلقّي العلاج. والخيرة فيما اختاره الله؛ اللهم لا اعتراض على أمرك…لعلّ سامي أراد وحرص على أن يترك صورته وذكراه الجميلة في ذهن من أحبّ؛ وهو لذلك رفض استقبال أحد خلال فترة علاجه، ولم يرِد أن يراه أحد وهو في حال المرض والوهن؛ فترك في أذهاننا ومخيّلة من أحبّ وأحبّه، صورة وجهه المشرق الضحوك وشخصيّته المشاكِسة.
ومن أحبّ الذكريات إلى نفسي، عندما كنت أكتب مقالاً أسبوعيّاً يُنشر كلّ يوم ثلاثاء في صحيفة الحياة. كان سامي يقرأ مقالاتي بشغف، ويستعدّ لمناقشتها معي يوم الخميس؛ فيأتيني دوماً متسلّحاً بالحجج والشواهد، وكأنّه قد أتمّ بحثاً كاملاً متكاملاً عن الموضوع. فيناقشني به ويطرحه من زوايا مختلفة، ويعبّر عن رأيه – الذي غالباً ما يكون مغايراً عن رأيي- ويتطوّر النقاش والسجال فيما بيننا إلى مواضيع متشّعبة ومتعدّدة، توحي لي بموضوع مقالٍ جديد، للأسبوع القادم…ولكم كان يشعر سامي بالفخر حينما يوحي لي بموضع جديد أكتب عنه…
أتذكّر أيضاً، عندما كنت في خضمّ التحضيرات للمؤتمر السنوي السادس لمؤسسة الفكر العربي، فكر6، والذي عُقد في البحرين سنة 2007. وإذ رأى حينها سامي مدى انشغالي وتكريسي من وقتي للمؤتمر، ومدى أهميّته بالنسبة لي، فسألني" لماذا لا تدعون عمّي غازي القصيبي؟". فقلت: "هذه أمنية يا ليت ان تتحقّق! ولكن كيف لي أن أصل إلى معالي الوزير الدكتور غازي القصيبي؟!". قال: "دعها عليّ، أنا أرتّب لك موعداً".
كان الوقت آنذاك في عطلة عيد الأضحى المبارك، حيث كان الدكتور القصيبي يقضي إجازة العيد في البحرين، حين اتّصل بي سامي وأخبرني أنّه حصل على موعد لي مع عمّه في تمام الساعة الحدية عشر والنصف. على أن عمّه لديه التزام آخر في الساعة الثانية عشر ظهراً. ولم أكن لأطمع في أكثر من نصف ساعة، بشرف اللقاء مع قطب من أقطاب الفكر ورجال الأدب والثقافة والسياسة. واستأذنت يومها سيّدي، رئيس المؤسّسة صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل بدعوتي – لكنّه نبّهني مسبقاً بأن الدكتور غازي لا يشارك في المؤتمرات.
وفي اليوم المحدّد، في تمام الساعة الحادية عشر والنصف صباحاً، كنّا نقف سامي وأنا، أمام منزل الدكتور القصيبي، الذي استقبلنا شخصيّاً وبحفاوة. ويبدو أن سامي قد أطلع معاليه عن مؤتمر فكر والقائمين عليه. بدأت حديثي بنقل التحيّة والسلام ودعوة الأمير خالد له للمشاركة في المؤتمر؛ فبادر إلى إبداء إعجابه وحبّه وتقديره لمجهودات صاحب السموّ الملكي الأمير خالد الفيصل الثقافيّة والفكريّة العديدة، وبالأخصّ من خلال مؤسّسة الفكر العربي، لكنّه أجابني: "أنا لا أشارك في المؤتمرات، وسموّه يعرف ذلك!".
لا زالت منطبعة بذهني وحاضرة في مخيّلتي نظرة سامي وقت ذاك، فكأنّه يعتذر إليّ عن عدم نجاحنا في إقناعه بقبول الدعوة. لكننّي لم أيأس، وشرعت بالتحدّث بشغف عن مؤتمر "فكر" ومؤسّسة الفكر العربي ونشاطاتها وأهدافها. فكان لي الدكتور القصيبي بالمرصاد، يحاور ويسأل ويستفهم عن المزيد من المعلومات، حتّى اقتنع بأهميّة مؤتمر "فكر" – أو على الأقلّ أبدى اقتناعه – لكنّه بقي مصرّاً على عدم الحضور.
ولكثرة ما أبدى معاليه من اهتمام بالحديث، استرسل بنا الوقت من دون انتباه، وفوجئت بحلول الساعة الثانية عشر ظهراً، فاستأذنت بالانصراف لعلمي بارتباط معاليه بموعد آخر. لكن ولشدّة دهشتي، طلب منّي البقاء، واستطرد بنا الحديث من موضوع لآخر، بين قصائد غازي، وعمله في لندن وأخيراً في وزارة العمل، وبين مواضيع ثقافيّة واجتماعيّة متنوّعة أخرى. فكنّا سامي وأنا، كالتلامذة في حضرة المعلّم؛ نسأل السؤال تلو الآخر، وننصت للإجابة بشغف، مسجّلين فيضاً من الحِكم والمعاني وتجارب الحياة.
طال بنا الحديث الشيّق حتّى الساعة الواحدة والنصف، ولم نشعر بالوقت يمرّ. فكلّ دقيقة بجوار شخصيّة كغازي القصيبي، هي مكسب عن حقّ. واستأذنّاه للمغادرة، فلم يابَ إلاّ وأن يمشيَ معنا حتّى أوصلنا إلى سيارة سامي – رحمهما الله جميعاً – كم بدا يومها سامي سعيداً ومفتخراً بعمّه، وكم جعلني هذا اللقاء أشعر بقيمة رجال كغازي القصيبي وأصدقاء كسامي القصيبي.
لم يكن د. غازي القصيبي الشخصيّة الوحيدة التي عرّفني بها سامي. فلطالما كان سامي صلة الوصل بيني وبين العديد من أصدقائه من كبار رجال الأعمال في المنطقة الشرقيّة، ويقدّمني إليهم وبفخر قائلاً "هذا ولدنا حمد" يعمل في مؤسّسة الفكر العربي. ولا حالت السنوات التي يكبرني بها، وهو صديق لأخي الكبير عبدالعزيز، حاجزاً بيني وبينه أو بين صداقتنا. بل كنت أدرك يوماً بعد يوم، رغم اختلافنا على الكثير من الآراء، مدى وساعة صدره، وصدق إنسانيّته، وكرمه، وإخلاصه للأصدقاء، ومساعدته للضعفاء…هو ابن آل القصيبي، الأسرة التي لطالما عُرفت بمكانتها في المجتمع، كان مثالاً للتواضع قلّ أن تجده في أيامنا…
"أبو سارة" كنت أناديه…وكان هو الوحيد الذي يناديني بـ"أبو ياسمينا". كلانا لم يرزقْنا الله بولد، فكنّا نسمّي بعضنا البعض بأسماء بناتنا الكبار. كم كانت جميلة تلك الكنية من فمك يا سامي، وكم كانت جميلة الضحكة التي لم تفارق محيّاك، وتلك الحكمة في عينيك، والصداقة التي جمعتنا…حتّى وداعنا الأخير. وداعاّ يا صديقي رحمك الله رحمةً واسعة، وجمعك في جنة الخلد مع عمك "أبو يارا".