أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكاً من الحسن حتى كاد أن يتكلّما
بيتٌ من قصيدة للشاعر البحتري، لطالما ردّده على مسمعنا أستاذ للّغة العربية في جامعة البترول والمعادن، حين كنت طالباً فيها. لا أعلم لما، إنّما لم يكن بمقدوري آنذاك أن أكنّ لهذا الأستاذ – وهو من جنسيّة عربيّة – أيّ شكل من أشكال المودّة؛ فلطالما استفزّني بشخصيّته المتعالية وشعوري بامتعاضه الدائم من التلامذة؛ وربّما كان هو السبب وراء نفوري من هذا البيت للبحتري عن الربيع…
والحقيقة، أنّنا لم نكن حينها ونحن أطفال في الدمّام، نعرف “فصل الربيع” الذي يأتي ضاحكاً من الحسن، حاملاً في طيّاته وروداً وجمالاً وألواناً ونسائم عليلة… فالربيع بالنسبة إلينا، كان يأتي في “الشتاء” بعد هطول الأمطار حين نخرج إلى البادية القريبة منّا، في ما يسمّى نزهة الربيع، بعد أن يهطل رذاذ الأمطار وتنبت الأعشاب الخضراء.
وفي ربيع الشباب، سافرنا إلى أقاصي الأرض! هناك، تعرّفنا إلى فصول السنة الأربعة. استمتعنا بجمال الطبيعة والطقس في الربيع، الذي لم يَعُد مجرّد خيالات وصور كنّا نراها أو نسمع عنها في طفولتنا. عرفنا أنّ ربيع الأرض هو غير ربيعنا الذي يأتي في الشتاء…ففيه تعود الحياة إلى الأرض، فيه تتفتّح الزهور والبراعم، فيه تتجدّد الأرض وتلبس أبهى حلَلِها…فأيْقَنْت حينها كيف يأتي الربيع…مختالاً ضاحكاً من الحسن.
ويعود اليوم الربيع إلى مسمعي…لكن هذه المرّة تحت مسمّى “الربيع العربي”… اسم لا أعلم من أطلقه على ربيع أتانا يختال من الثورة – لا بل الثورات – ثورة مطالبة بحقوق، وانتفاضة ضدّ الفساد والديكتاتوريات…
يعود اليوم الربيع، ولكنّه ربيع من نوع آخر…ربيع يزلزل الأرض تحت أقدام قادة! ربيع يتقلّب بين البلدان العربيّة كتقلّب فصول السنة!…ربيع أتانا مختالاً…فتكلّما…في تونس ومصر، ثم اليمن، وهو اليوم “يتكلّم” في ليبيا وسوريا…
وربّما تشاء الأقدار أن يبقَ بيني وبين الربيع هذه العلاقة المبهمة…فمنذ انطلاق الشرارة الأولى في تونس، ومصر كنت أراقب بحذر، وأرصد الأحداث، في محاولة لمعرفة من أيّ زاوية يمكن أن أنظر للربيع العربي؟ وما إذا كان الربيع العربي، هو ربيع الصحراء القصير أو ربيع البحتري؟ حتّى أصبح هذا الربيع عنوان عملي لهذه السنة؛ والتفكير بما سيأتي من بعده هو شغلي الشاغل بعد أن أطلق عنوان المؤتمر العاشر لمؤسّسة الفكر العربي “ماذا بعد الربيع؟”. دعوة أطلقتها مؤسّسة الفكر العربي، للتفكير والحوار بتروٍّ ومسؤوليّة، واستشراق آفاق المناخات والفصول التي قد تعصف بوطننا العربي.
للفكر إذاً لقاء…لقاءٌ في الشتاء، ودعوة للحوار عمّا بعد الربيع؟ ذاك الربيع المتقلّب الذي ما زال يعصف بنا؛ ربيع ربّما يكون قد تأثّر بالتغيّر المناخي والاحتباس الحراري، فجعلنا نرتقّب تبعاته بحذر. فما نراه ليس مجرّد نسمة من نسمات الربيع تهبّ على منطقتنا، ولا عاصفة تعصف بأجوائنا وتنثر علينا غبارها ثمّ ترحل؛ إنّما هو تغيير على المستويات الإقليميّة والدوليّة، تغيير ينشد وعي وإصلاحات سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة. فإلى أين سينتهي بنا هذا الربيع يا ترى؟ وماذا يحمل لنا من بشائر وخبايا؟ هل سنقطف زهوره بأيدينا، أو نُهدى أشواكه؟…