ظهرت حدّة المنافسة بين قانتيّ الجزيرة والعربيّة، عقب أحداث العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزّة، ومقابلة الرئيس الأمريكي الجديد باراك أوباما لقناة العربيّة. وهذه الظاهرة، وإن بدت حادّة في بعض الأحيان، لكنّها تصبّ في مصلحة المشاهد العربي وتسهم في تحفيز التنافس بين القنوات العربيّة لتحسين وتقديم أفضل الخدمات والبرامج للمشاهد العربي.
وقد حقّقت قناة الجزيرة نجاحاً عالميّاً لم يسبق له نظير، ممّا جعلها القناة العربيّة الأولى السبّاقة في حرفيّة نقل وتحليل الأخبار. فاستحقّت عن جدارة أن تتبوّأ علامتها التجارية المرتبة الخامسة على المستوى العالميّ. ولكن هذا النجاح الكبير والسمعة العربية والعالمية، لم يخلُ من العديد من الشوائب والشُبهات، التي تراوحت بين اتهام القناة بدعمها لأسامة بن لادن خلال هجومه على أفغانستان، والتعاطف مع صدام حسين قبيل الغزو الأمريكي للعراق، وصولاً إلى التعاطف مع المقاومة العراقية للإحتلال الأمريكي. وقد ساهمت هذه الأمور في تباين المواقف ووجهات النظر نحو هذه القناة، فكان هناك الغرب المعارض، والعربيّ المحبّذ. ولا تنتهي القصّة هنا، فقد تمّ استغلال القناة لأهدافٍ سياسيّة، فأصبحت بوقاً لا بل سلاحاً يصوّب في جميع الاتجاهات، لخدمة أغراضٍ سياسيّة صرف؛ حتّى تحوّلت إلى أداة سياسيّة، فحيّرت المراقبين، وأغضبت جيرانها من الأشقاء العرب، قبل أعدائها من غير العرب. إنّ نجاح قناة الجزيرة من ناحية، وتوجّهاتها السياسيّة من ناحية أخرى، كانت وراء ظهور قناة العربيّة، التي لم تقع في فخّ الميول السياسيّة، بل اتخذت طابعاً أكثر احترافاً، وابتعدتً عن إثارة العواطف، أو الصراخ والتشهير، في محاولة لنقل الحقائق بكلّ واقعيّة من دون استغلال المشاعر العاطفيّة العربية. وبدأ التباين في المواقف العربيّة بالظهور للعلن من خلال التنافس الواضح بين القانتين، ممّا انعكس سلباً على أداء القانتين. وخير مثال على ذلك، التغطية الإعلاميّة للأحداث الأخيرة في غزّة. فكان لقناة الجزيرة الحضور المميّز والتغطية الشاملة، للإجتياح الذي أطلقت عليه اسم "العدوان"، ولأحداث القتل من الفلسطينيين الذين أسمتهم بالشهداء وقد بدت في كثير من الأحيان وكأنّها الناطق الرسمي باسم حماس، وحظيت تغطيّتها للعدوان بقبول لدى الشارع العربي، الذي كان يشعر بنوع من العزاء عند سماع مذيع متعاطف مع إخوانه من أهل غزّة، في وجه عدوّ متغطرس. وكذلك كنا نتابع الشريط الإخباري لقناة الجزيرة، ينقل أخباراً عن أسر عدد من الجنود الإسرائيليين ومقتل آخرين. ومن لم يكن حينها يتمنّى انتصار المقاومة الفلسطينيّة؟ ولكنّي لم أستطع الاعتماد على مصدر واحد للأخبار وتصديق كلّ ما تنقله قناة الجزيرة. لذلك كنت أتنقّل بين القنوات الأخرى كالعربيّة وغيرها، بحثاً وتأكيداً لأخبار عن أسرى وقتلى من الجنود الإسرائيليين…ولكنّي لم أكن أجد إلاّ صور القتلى من الأطفال الفيلسطينيين، والمنازل والمساجد والمدارس المهدّمة على رؤوس أبناء غزّة، من دون أيّة معلومات عن أسرى من الجنود الإسرائيليين. أمّا قناة العربية فقد غطّت أحداث غزّة بحرفيّة ومهنيّة، وإن كانت تغطيتها لم تُعجِب بعض العرب، الذين أطلقوا عليها اسم القناة العبرية، وهي التسميّة نفسها التي أطلقها عليها حزب الله خلال تغطيّتها للغزوة الأخيرة على بيروت، عندما أُحرِق مقرّ تابع لقناة المستقبل وأجتاحت قواتة بيروت، وغضَب البعض منها لأنّها كانت تنقل الأخبار عن المزيد من "القتلى" الفلسطينيين وليس "الشهداء" الفلسطينيين. وقد ردّ مدير قناة العربية علة هذه التّهمة بالقول "إنّ القناة لا توزّع شهادة الاستشهاد بل تنقل الأحداث كما هي وبكلّ موضوعيّة". وكنت أتابع قناة العربية خلال الأحداث الأخيرة أكثر من أيّة قناة إخباريّة أخرى، نظراً للحياديّة المهنيّة التي اتصّفت بها والموضوعيّة في نقل الأخبار التي تميّزت بها دون سواها. كما كنت في كثير من الأحيان، أشاهد أيضاً بعض القنوات الأمريكيّة كالـ سي أن أن، أو البريطانيّة بي بي سي، لأنّي كنت أجدهم أكثر موضوعيّة ومهنيّة في تحليل الأحداث، وإن لم يخلُ الأمر أحياناً من إظهارها لبعض التحيّز لإسرائيل على عكس القنوات العربية. وجدير بالذكر أنّني عملت لفترة بسيطةً مع مدير العربيّة عبدالرحمن الراشد، خلال تنظيم المؤتمر السنوي لمؤسسة الفكر العربي في دبيّ سنة 2005، تحت عنوان "الإعلام العربي والعالمي". وقد لمست حينها ما لديه من خبرة ومهنيّة في المجال الإعلامي، حفّزتني على متابعبة مقالاتة اليوميّة، – وإن كنت لا أتّفق مع آراء بعضها – إلاّ أنّني أحترم رأيه واستقلاليته.أمّا أكثر ما أزعجني خلال الأحداث الأخيرة، هو حملة التخوين والاتهامات بالعَمالة، التي أطلقها البعض ضدّ قناة العربيّة والقائمين عليها. وقد تلقّيت العديد من الرسائل الإلكترونيّة التي كانت توجّه أصابع الاتهام إلى قناة العربيّة، على أنّها بوق صهيونيّ تارةً، وأنّها قناة المحافظين الجدد تارةً أُخرى…ويبدو أن عدوى التخوين والتشكيك قد انتقلت إلينا من لبنان، حيث تتفنّن المعارضة اللبنانيّة – وحزب الله على وجه الخصوص – في إطلاق الاتهامات على كل من يخالفهم في الرأي. حيث وكما يبدو تلاقى الإعلام القوي لحزب الله هذه المرّة، مع المتشدّدين من السنّة، واتحدّوا لمحاربة قناة العربيّة وإطلاق الفتوى والشعارات المغرضة ضدّها. وبناءً على دراسة أجراها ونشرها مركز "مديا تنور" السويسري، حول التغطيّة الإعلاميّة للحرب الأخيرة على غزّة، جاء نتيجتها أنّ القنوات البريطانية تميّزت هذه المرّة بتحيّزها الواضح للجانب الإسرائيلي؛ لعلّ أبرز هذا التحيّز ظهر في رفض القناة البي بي سي بث نداء إغاثة إنسانيّة لمساعدة الفلسطينيين المنكوبين في قطاع غزة. في حين كان هناك توازن في تغطيّة الإعلام الأمريكيّ في نقل هذه الأحداث (باستثناء قناة فوكس اليمينية)، رغم ما عُرف عنه من تحيّز سابق للإسرئيليين. وأظهرت الدراسة أيضاً تعادلاً بين قانتيّ الجزيرة والعربية في حجم التغطيّة وساعات البثّ، تليهم قناة ال بي سي اللبنانيّة. كما انتقدت الدراسة بعض الميول في نقل قناة الجزيرة للأحداث ممّا جعلها تبدو لصالح أحد الأطراف. وذكر التقرير أنّ مراسلي الصحف العالمية مُنعوا من الدخول إلى قطاع غزّة وتصوير ما يحدث فيها من جرائم شنيعة كان يرتكبها الجيش الإسرائيلي. وأشار الى كثرة المتّحدثين من الطرف الإسرائيليّ الذين دافعوا وبرّروا الهجوم الإسرائيلي. فكان بينهم الناطقة الرسميّة باسم الجيش الإسرائيلي (التي صبغت شعرها باللون الأشقر، قبل أيام بناءً على نصيحة إحدى شركات العلاقات العامّة)؛ والناطق باسم الخارجيّة الإسرائيليّة والحكومة الإسرائيليّة والمنظمات الدينيّة والمدنيّة، التي جُنّدت للتحدّث إلى الصحافة، فوُزّع المتحدثون – تبعاً للّغة التي يجيدون التحدّث بها – على وكالات الأنباء العالميّة الإنجليزية والألمانيّة والروسية والإسبانية والفرنسيّة وحتى العربية منها… وهنا يبدو الاستعداد الإسرائيلي للحرب التي شنّتها على غزّة بشكل واضح، من الناحية الإعلامية، بالإضافة إلى الجهوزيّة العسكرية. وهذا التفوّق في التحضيرات قابله ضعف من قبل حركة حماس، في شرح وجهة نظرها، وإن كان هناك بعض الأشرطة الدعائية التي تمّ توزيعها، والتي تمّ إعدادها كا يبدو في بيروت؛ الأمر الذي جعل نقل الأنباء المحايدة والحقيقة المجرّدة لأحداث غزّة مهمّة صعبة جدّاً، وربّما مستحيلة. كما أظهر التقرير – ولم أستغرب هذا الأمر- أنّ أحداث غزة كانت المُسيطر الأول على كافّة الوسائل الإعلاميّة العربيّة، كما أنّها نالت حصّة كبيرة على المحطات العالميّة على حدّ سواء. لا شكّ أن لقناة الجزيرة قدرةٌ على استقطاب المشاهد العربي، وإن كان ذلك على حساب المهنية والحرفية الإعلامية؛ ولا شكّ أيضاً أن قناة العربية قد التزمت بموضوعيّة أكثر في نقل الأحداث، رغم أن ذلك الأمر لم يرضِ بعض الجماهير العربية الثائرة. إنّ الفرق بين القناتين، هو الفرق نفسه بين القناتين الامريكيتين السي أن أن و فوكس: فكلتاهما يتعاطفان مع إسرائيل، ولكن قناة فوكس تظهر انحيازها بشكل واضح ومقزّز، لا يعجب المشاهد المحايد، الذي يفضّل قناة ال سي أن أن، التي تنقل الأحداث بنوع من الحياد، ولو كان مبطّناً…وتبقى الكلمة الأخيرة للمشاهد… حمد بن عبدالله العماريالمدير التنفيذي لمؤتمرات فكر